Sunday, July 13, 2014

المُناصرة والعمل الجماعي في السودان: سيرٌ على تُؤْدة ولكن بثبات


مقدمة

القصد من هذه المفاكرة المفتوحة هو توثيق تجربة العمل الجماعي والمناصرة في السودان في معرض الرد على الدعاوي بأن ما يحدث في السودان الآن لا جدوى منه ومحدود التأثير، وسيكون ذلك بالتأمل في سير العمل الجماعي والمناصرة وكل ما له علاقة بالتغيير المجتمعي في المجتمعات التي تقع تحت نير حكم شمولي\أو عسكري. والتحديد لنوع الحكم أمر مهم للغاية فديناميكة العلاقة بين السلطة والمواطن في هذه المجتمعات تحكمها عوامل كثيرة اهمها الخوف وعدم الثقة، لا من النظام فحسب، بل من أي فعل جماعي يهدف لتغييره لتأصل فكرة أن السُلطة أكبر وأكثر تجذراً من أن تهدمها المطالب مهما على صوتها أو اتسعت رقعتها. إن الكفر السائد بقدرة الفعل الجماعي على إحداث تغيير مجتمعي أو سياسي هو من أهم انجازات اي نظام شمولي يوّهم مواطنية بأن قوته، اي النظام، لا يستمدها من خنوع مواطنيه بل هي قوة كامنة فيه، وهو اللبس الذي يكبّل الجموع التي تملك في حقيقة الأمر القول الفصل في قوة نظام أو ضعفة. فالانظمة الشمولية لا تّمكن من سلطتها إلا بموافقة الجموع على منحها تلك السلطة، سواء على علم منها أو بتقبلها ما يروجه النظام من أهليته للسلطة برغم رفض الجموع له.  ظلت الحكومة السودانية ترّوج لفكرة أنها "المنقذ" للسودان، سودان جديد خلقته هي بمجيئها. وظلت عبر عقدين ونيف ترسخ فكرة هذه السودان وتربط بين بقاءه وديمومته وبين الوطنية والانتماء. وبفضل سيطرة النظام الحاكم على التعليم والاعلام المرئي والمكتوب، وغياب أي اعلام بديل بخطة منهجية، سهل حشد الرأي العام لصالح الحكومة، وبالتالي ترسيخ فكرة هيمنة النظام والنظر بارتياب لأي عمل معارض.. تكمن خطورة هذه الايحاء بارتباط الوطنية ببقاء النظام في أنها تساوي المقاومة للنظام بالخيانة والعمالة والـ لانتماء. وفي مجتمع مهجّس بالعار والعيب والقبلية ويولي اهتماما كبيرة للقبول وعدم الشذوذ عن المجموع، تُقابل الاصوات المطالبة بالتغيير بالاتهامات بالعمالة والعلمانية وقلّما تجد الفرصة العادلة لتوضيح فكرتها، أو تطوير آلياتها وفلسفتها بشكل يمكنها من الصمود أمام الخوف، ناهيك عن الحشد الفعّال لتحقيق مطالبها.
 المؤتمر الصحفي لأسر المعتقلين - أم محمد صلاح وتاج السر  يوليو ٢٠١٤


ما أوحى لي بفكرة هذه التدوينة هو افراج السُلطات السودانية  عن مجموعة من الشباب السوداني قبل يومين بعد اعتقال دام أكثر من شهرين، ولم توّجه للمُفرج عنهم أي تهمٍ حتى ساعة اطلاق سراحهم. وجاء الافراج بعد ان دخل المُعتقلون في اضراب عن الطعام لحوالي اسبوع، وقامت اسرّهم والمناصرين بتنظيم احتجاج أمام مراكز الأمن مطالبين بالافراج عن المعتقلين السياسيين. وكانت والدة محمد صلاح قد سجلت شهادة فيديو حول اعتقال ولدها، بالاضافة لتحدثها في مؤتمر صحفي بجانب والدة تاج السر جعفر حول ظروف اعتقال ابنيهما. كل ما سبق من خطوات المُناصرة،التي تصب في اشراك الرأي العام بحيثيات اعتقال هؤلاء الشباب دليل ٌحي على تطور فكرة المناصرة من مجرد تغيير صورة البروفايل الشخصي على حسابات وسائط التواصل الاجتماعي إلى فعل ملموس وممنهج بمطالب عادلة ودستورية أدت إلى نتائجها الفورية باطلاق سراح المعتقلين بالاضافة إلى دورها في التوعية بالحقوق الدستورية بشكل عملي.
المناصرة والفعل الجماعي
فكرة المناصرة والفعل الجماعي والمطالب الفئوية ليست بالمفاهيم الجديدة أو الطارئة في السودان. إلا أن المُناصرة بمفهومها العام ظلت ممارسة حصرية على العاملين في مجال حقوق الانسان أو الناشطين سياسياً، ومن خلال قنوات مباشرة مع منظمات حقوق الانسان الخارجية دون المرور بالرأي العام إلا فيما ندر، وهو الأمر الذي أصبح أكثر صعوبة في ظل تضييق القبضة الأمنية من قبل الحكومة على اي تجمهر لا تنظمه الحكومة أو تأذن به. أما الفعل الجماعي فهو أمر من صميم نسيج المجتمع السواداني الذي يعتمد بشكل اساسي على التكاتف الاجتماعي، إلا أن سمة العمل الجماعي السياسي المنظم انحسرت منذ مجيء النظام في عام ١٩٨م بتجفيفه للمشهد السياسي من الكوادر القيادية، وتضييق الخناق على العمل النقابي والطلابي وتسييسة لحساب النظام الحاكم.


سأتحدث في هذا الجزء تحديداً عن مسيرة الُمناصرة والحشد  في السودان خلال السنوات القليلة التي سبقت ثورات الربيع العربي في أواخر ٢٠١١م، وتلك التي تلتها بدأت في معظمها بأعداد قليلة  وتعاطف شعبي خجول إلا أنها تبلورت لتتخذ منهجاً مرتباً في السنوات الأخيرة مما يًنبأ بتطور الفعل الجماعي على مستوى القاعدة فيما يخص الحقوق الدستورية، والمًحاسبة للسُلطات، ومراقبة عدالة تطبيق القانون.


المُناصرة: النساء في الموّاجهة


لبنى حسين ترتدي الملابس التي كانت ترتديها
 وقت توقيفها من قبل شرطة النظام العام 
في يوليو ٢٠٠٩م،  القت شرطة النظام العام القبض على لبنى حسين، الصحفية والموظفة في الأمم المتحدة، وادانتها المحكمة "بارتداء ملابس "غير محتشمة" وحكمت عليها بدفع غرامة مقدارها 500 جنيه سوداني، او ما يعادل مئتي دولار تقريبا" واعتمدت المحكمة في قرارها على المادة ١٥٢ من القانون الجنائي السوداني لعام ١٩٩١م، الذي يقضي بجلد كل من ارتكب فعلاً فاضحاً او خدش الحياء العام او ارتدى زياً غير محتشم. والقانون أثره على النساء أكبر، للضرر النفسي والوسمة السالبة التي ترتبط بأي فتاة تحاكم به. وقانون النظام العام سيفٌ معلق على رؤس الناشطات على وجه الخصوص متى ما أرادت الحكومة تكميمهن أو تحجيمهن.  كما تستخدم الدولة هذه القانون كأدة قمع وتدخل في الحيز الخاص للمواطنيين في اطار جهودها لتمييع الخط الفاصل بين الخاص والعام لفرض سيطرتها على كلا الحيزيين.

صعّدت لبنى حسين من قضيتها وحشدت فيها الرأي العام بشكل غير مسبوق حيث قامت بتوزيع دعوات للصحفيين والمجتمع المدني لحضور محاكمتها وارتدت طوال تلك الفترة الملابس التي كانت ترتديها وقت اعتقالها لتدلل على بطلان التهمة بخدش الحياء العام. رفضت لبنى حسين دفع الغرامة المالية، وهو الخيار الذي لم يكن متاحاً للأخريات التي القي القبض عليهن معها ونفذ فيهن حكم الجلد بعد توجيه ذات التهمة اليهن. أصرت لبنى حسين على تصعيد القضية بالمطالبة بالغاء المادة ١٥٢ والقوانين المجحفة ضد النساء. نالت قضية لنبى حسين تغطية واسعة على الصعيد المحلي والاقليمي والعالمي، واثارت حواراُ داخليا في السودان حول الحقوق وتفاصيل القانون، وهو نقاش غير معتاد خلال العقدين التي حكمت فيها الانقاذ السودان. لم تتمكن في وقتها من تحريك القضية لأبعد من تسليط الضوء على قانون النظام العام إلا أن تلك الحادثة أسست لحجر حراك نسوي تجاه تغيير قانون النظام العام. فبعد عام ونصف من القضية، وفي ديسمبر ٢٠١٠م،  نظّمت مجموعة من الناشطات والقياديات السودانيات مسيرة إلى مكتب وزير العدل لتسليمة بمذكرة يطالبن فيها بمراجعة القوانين المحجفة ضد النساء وعلى رأسها قانون النظام العام والمادة ١٥٢ من القانون الجنائي، بالاضافة بنشر تفاصيل التحقيق في الانتهاكات على اساس الجندر. اعتقلت الشرطة عدداً كبيرا من المشاركات وعللت ذلك بأن مسيرتهن لم تكن مرخصة وبالتالي لا تعد سلمية.

اثمرت تلك التحركات النسوية عن مبادرة لا لقهر النساء والتي تبلورت خلال الأعوام التالية لتشمل تحت لوائها أي مطالبات تتعلق بحقوق المراة او العسف الحكومي ضد النساء.
لم تفت تلك القيود المفروضة من الدولة والعراقيل في عضدٍ الجهد النسائي على وجه الخصوص، ومحاولتهن في تغيير القوانين والوصول للب المشكلة عوّض التعامل مع القضايا بشكل منعزل.

انتقلت فكرة المناصرة النسوية لمرحلة أخرى جديدة في قضية صفية اسحاق، ناشطة سياسية وفنانة تشكيلية. وقضية صفية اسحق كانت مرحلة جديدة على أكثر من صعيد،فهي المرة الأولى التي تتحدث فيها امرأة سودانية صراحة وبشجاعة  عن اغتصابها في تسجيلين أحدهما لا يظهر فيه وجهها، والآخر عرّفت فيه بنفسها.  حكت صفية عن تعرضها للاغتصاب على ايدي منسوبي جهاز الأمن خلال احداث يناير ٢٠١١م.  لم تكن صفية اسحق الضحية الوحيدة للاغتصاب كعقاب على المعارضة السياسية إلا أنها كانت الوحيدة التي تحدثت عنه بشجاعة بالاضافة للعميد محمد الرّيح في خطابة الشهير للرئيس عمر البشير يفصل فيه تعرضه للتعذيب الجنسي.  ظلت الحكومة السودانية منذ مجيئها لسدة الحكم  تستخدم الاغتصاب والتعذيب الجنسي كأداة لإذلال الناشطين من الجنسين، وفي مناطق الحروب والنزاعات وضد النساء من الهامش، إلا ان تلك الانتهاكات لم تكن تحظي بالتغطية الصحفية المحلية ونادراً ما كان يتحدث الضحايا عنها خوف الوصمة السالبة أو ملاحقة الحكومة لهم.  
نظمت مبادرة لا لقهر النساء وفقة للتضامن مع صفية اسحق والمطالبة بمراجعة قانون النظام العام،  إلا ان السلطات فرّقت التظاهرة بالغاز المسيل للدموع واالعصي قبل أن تعتقل جلّ المنظمين والمتظاهرين ووجهت لهم\هن تهماً بالازعاج والاخلال بالأمن.
 الصحفية فاطمة غزالي 
أثارت قضية صفية الرأي العام، وعلت الاصوات من الناشطين والحقوقيين تطالب بمحاسبة المعتدين.   وكما هو متوقع، تم تجريم  وملاحقة اي صحافي يكتب في قضية صفية اسحق. سأركز تحديدا على الصحفيتين فاطمة غزالي وأمل هبّاني لتناولهن لقضية صفية اسحق على الرغم من الرسالة القوية الكامنة في القضية بترهيب النساء من تناول السياسية أو مواجهة السلطة.  فقد تعرضت أمل هباني وفاطمة غزالي، وصحافيين أخرين ومدراء تحرير صحف، الى ملاحقات قانونية من قبل جهاز الأمن السوادني بموجب المادة ٦٦ من القانون الجنائي السوداني (الاخبار الكاذبة)، لتناولهم قضية صفية وكان الشاكي فيها جهاز الأمن السوداني الذي اتهمته صفية باغتصابها. في يوليو من عام ٢٠١١م، بعد ستة أشهر من حديث صفية اسحق، حكمت المحكمة على كل من أمل هباني وفاطمة الغزالي  بالسجن أودفع غرامة مالية. وعلى الرغم من انطلاق حملات على الانترنت لجمع الغرامة المالية لأمل هبّاني، ورفضت كليهما دفع الغرامة وفضلن السجن كتعبير لرفضهن للتهمة ووصفن الحكم بأنه ظالم. ظلت القضايا المرفوعة من جهاز الأمن ضد الصحف والصحفيين الذين تنالوا قضية صفية اسحق في أروقة المحاكم لأكثر من عامين ، وفي عام ٢٠١٢م، اسقطت المحكمة العليا التهم الموّجه ضد صحيفة الجريدة لتناولها لقضية صفية. وتعرض الصحفيان فيصل محمد صالح والدكتور عمر القرّاي لتهمٍ مشابهة من قبل جهاز الأمن.   وبعد تأجيل للمحاكمات دام لأكثر من عامين، برأت المحكمة في ديسمبر ٢٠١٣م الصحفي فيصل محمد صالح من التهم الموّجهة ضده.

بوستر حملة تضامن مع سمر ميرغني 
كل ما تقدم في هذه الفقرة، وإن تباعدت الاحداث في البعد الزمني، إلا انها  تؤكد ارتفاع وتيرة العمل الجماعي وتشابك جهود المناصرة في القضايا المتعلقة بحقوق الانسان والمرأة، برغم ارتفاع فاتورة تلك المناصرة. أدى الحراك النسوي النوعي في هذه الفترة إلى تشجيع النساء على الحديث أكثر عن القضايا السياسية والشائكة، حتى وسط اللاتي لا يعرفن عنهن النشاط السياسي. ففي العام ٢٠١٣م، اثر التظاهرات التي تعرف بهبة سبتمبر، وثّقت سمر ميرغني في فيديو، تجربتها مع جهاز الأمن السوداني عندما القي القبض عليها لتصويرها أحداث المظاهرات وانتهاكات الشرطة واطلاقها الذخيرة الحية على المُتظاهرين.  تحدثت سمر في الفيديو بشجاعة عن تعرضها للضرب والتهديد بالاغتصاب من قبل الأمن السوداني.  وجّه جهاز الأمن تهمة حيازة صور فاضحة لسمر ميرغني في محالة لاسكاتها معاقبتها على حديثها عما تعرضت له خلال ساعات اعتقالها.  وبعد تأجيل مستمر للقضية، برأت محكمة بحري  سمر ميرغني من التهم الموجهة ضدها في اكتوبر ٢٠١٣م.

عاد قانون النظام العام للواجهة مرة أخرى في العام ٢٠١٣م في قضية أميرة عثمان، وهي ناشطة سياسية ومهندسة  كمبيوتر، وتعرضت للملاحقة القانونية لرفضها أمر شرطي بتغطية شعرها. قامت أميرة عثمان بتسجيل فيديو لافادتها وضحت فيها أنها ليست المرة الأولى التي تحاكم فيها بموجب قانون ١٥٢ من القانون الجنائي. حظيت القضية بتغطية واسعة من الصحافة العالمية ومنظمات حقوق الانسان وما تزال قضيتها قيد النظر أمام المحاكم السودانية وتوقعات بأن تتعرض للجلد.  

إن الحراك الاجتماعي والتغيير لا يأتي دفعة واحدة. فكل خطوة تجاه كسر القيود تؤسس للخطوات التي تليها. فموقف لبني حسين وشجاعة صفية اسحق سمر ميرغني والتوثيق للافادات واستخدام منابر التواصل الاجتماعي للحشد والتوعية تصب تجاه هذا التغيير الذي لن يحدث فجأة بل عندما تكتمل اركانة وتنمو جذورة بالشكل الكافي ليصمد أمام الخوف الجماعي والتسليم وفقدان الأمل في التغيير.

يتبع >>>>

  • سأتحدث في التدوينة القادمة عن تطوّر الوقفات والاحتجاجات في السودان.
  • لا مانع لدي من استخدام أو إعادة نشر محتوى هذه التدوينة دون الرجوع إلي مع مراعاة الاشارة إلى المدونة كمرجع.

3 comments:

  1. Solidarity is a powerful tool of expressing support and building awareness by ways of effective campaigning and networking. And documentation of such efforts is key to underscoring the validity and the usefulness of the solidarity campaigns by means of listing the chronology of events and the goals achieved. Well done.

    ReplyDelete
  2. كما ذكرت طوبة طوبة سننجز المهمة - الامر الثاني ما قمت به انت في التوثيق لتك المراحل التي تمت و هذا امر يقع علي عاتقنا كمدونيين و كتاب علي الانترنت

    ReplyDelete
  3. مقال مهم جدا يا عزاز. في خضم الاحداث اليومية تبدو التجمعات ووقفات التضامن مشتتة وكأنها بروص.. كل واحد قايم براهو- ونحن بحاجة ماسة لمن يضع كل ما يحدث في سياق واحد يربط بينهما جميعا- وهذا هو دور المثقف في نشر الوعي. هذا هو المقصود بنشر الوعي: نشر الوعي لا يعني ان تعدد للناس ما يواجهون من مظالم. الكل ادرى بما يواجه. لكن نشر الوعي ان يوضع كل ذلك في سياق عام يجمع الناس في اطار واحد لتتوحد المطالب. (طبعا- متوقع ان يختلف البعض حول بعض التفاصيل -تعودنا الملاججة) لكنه لن يأخذ شيئا من تماسك هذا المقال ووضعه لاول مرة ما يحدث بشكل تراكمي. الله يباركك

    ReplyDelete